:smile002:
أصرَّتْ أمُّ مشهورٍ على أنْ نقصدَ مُتْحَفَ الشّرطةِ القوميِّ حيثُ تُعرضُ صورَتَا كلٍّ من الأختيْنِ السّفّاحتيْنِ "ريّا وسكينة" للوقوفِ على شكليْهما وقراءةِ قصتَيْهما مع نساءِ اسكندريّة... ولكنَّ الحظَّ لمْ يكنْ حليفِي في هذا المقصدِ، إذْ إنَّ بابَ المتحفِ كانَ قدْ أغلقَ مصراعَيْه عندَ السّاعةِ الرّابعةِ!
فسرْتُ والخيبةَ، وتوجّهْتُ نحوَ متحفِ السّجونِ فكانَتْ خيبةٌ أخرَى تُزادُ إلى رصيدِي؛ الأبوابُ موصدةٌ في وجهِ الزّوّارِ!!!
مِلْتُ إلى "أبي مشهورٍ" أستصرخُ همّتَه للإتيانِ بفعلٍ مَا حتَّى أختتمَ بهِ جولتِي بزيارةِ سجونٍ حاضرةٍ على عذاباتِ مَنْ أذنبَ ومَنْ لمْ يُذنبْ...
ومِنْ جديدٍ، كانَتِ الجنيهاتُ، سيّدةَ الموقفِ والحلَّ الّذي يُذلّلُ الصّعوباتِ الّتي تعترضُ مسارَ رحلتِي الاستكشافيّةِ؛ فقَدْ همسَ "أبو مشهور" في راحةِ يدِ الشّرطيِّ بعشرةِ جنيهاتٍ ففُتِحَ البابُ أمامَنَا وفُرشَتِ الأرضُ تحتَنَا بالرّملِ،
واستُقْبِلْنَا بالتَّرْحابِ والتّأهيلِ والتّسهيلِ، وصحِبَنَا دليلٌ مع شَرْحٍ وافٍ لتطوّرِ السّجونِ عبرَ العصورِ!
مَا إنْ ولجْتُ البابَ، حتَّى اقشعرَّ بدنِي لمرأَى الممرِّ الضيّقِ الطّويلِ، ورحْتُ أسمعُ صدَى تأوّهاتٍ ما انفكَّتْ تتردّدُ منذُ أجيالٍ حتَّى لحظةِ وقوفِي، وكأنِّي بهَا أرواحُ مَنْ قُيّدَتْ حرّياتُهم وكُمَّتْ أفواهُ آرائِهم وأُلجمَتْ ألسنةُ منطقِهم!
ففِي العصريْنِ الأيوبيِّ والمملوكيِّ كانَ السّلاطينُ يستخدمونَ بعضًا من دهاليزِ هذهِ القلعةِ وأبراجِها كسجنٍ لذوي الجرائمِ أو المتمرّدينَ على السّلطةِ والمناهضينَ للحكمِ آنذاك أو القانونِ...
وراحَ الشّرطيُّ ينقلُ لنَا معاناةَ مَنْ سكنُوا تلكَ الغرفِ الأشبهِ بجحورٍ متقوقعةٍ على جدرانِها الباردةِ، فكنْتُ في كلِّ مرّةٍ أمدُّ رأسِي من طاقةِ ذاتِ أعمدةٍ حديديّةٍ وآسفُ على قساوةِ الإنسانِ على أخيهِ الإنسانِ أيًّا كانَ ما اقترفتْه يداه...
فهنَا مسجونٌ من العصرِ الإسلاميِّ، وهناكَ آخرٌ من العصرِ الأيوبيِّ، وههنَا منْ آثامِ الاحتلالِ الإنكليزيِّ الّذي بنَى الزّنزاناتِ الحاليّةَ الموجودةَ في هذهِ القلعةِ وذلكَ في أواخرِ القرنِ التّاسعِ عشرِ الميلاديِّ، وجلُّ استخدامُها كانَ للقضايا السّياسيّةِ...
الزّنزانةُ عبارةٌ عن مساحةٍ أرضيّةٍ مطاولةٍ ضيّقةِ الجدرانِ تكادُ تتّسعُ لرجلٍ واحدٍ ممدّدٍ أرضًا!
واللاّفتُ في الأمرِ، أنَّ كلَّ مسجونٍ كانَ يرتدِي الزّيَّ المناسبَ للعصرِ الّذي ينتمِي إليه، ومنْهم مَنْ كانَ يقرأُ ممّا يساعدُ على معرفةِ خلفيةِ الحقبةِ الزّمنيّةِ الّتي يجسّدُها هذا المقيّدُ أو ذاكَ...
وهذا ما يُشكَرُ عليهِ وزيرُ الدّاخليّةِ الأسبقِ "أحمد رشدي" الّذي أمرَ بتحويلِ تلكَ الجحورِ إلى متحفٍ بتماثيلَ تحاكِي الواقعَ الأليمَ المنصرمَ...
جولتُنا سريعةٌ كانَتْ بينَ جنباتِ هذا المتحفِ؛ فهو على خلافِ سابقِيهِ لمْ يبعثِ الفرحَ في قلبِي ولا الدّهشةَ من حضاراتٍ عظيمةٍ، إنّمَا صاحبَنِي شعورٌ بالحزنِ العميقِ، ولفَّ لهفتِي سوادٌ مدلهمٌّ مَا لبِثَ أنْ أطفأَ اندفاعِي وطمسَ على حماسِي، فرحْتُ أتململُ وأتأفّفُ كمنْ أُطبِقَ على أنفاسِه...
فكلّمَا نظرْتُ إلى الكرةِ الحجريّةِ المهولةِ الّتي تتعلّقُ بقدمِ السّجينِ، أحسُّ بصخرةٍ من صخورِ الهرمِ تربضُ فوقَ صدرِي، فأحتاجُ إلى زفيرٍ عميقٍ وشهيقٍ متواصلٍ، لأستعيدَ توازنَ عمليِةِ تنفّسِي...
في ذلكَ الوقتِ كانَ "أبو مشهورٍ" متولّيًا تصويرَ المتحفِ بتوصيةٍ منّي، إذ إنّني ما كنْتُ مرتاحةً بما يكفِي لألتقطَ صورًا لعذاباتِ رجالٍ مضَوا، وربّما قضوا فوقَ تلكَ البقعةِ من الأرضِ حيثُ أنظرُ!
وبينَما كنَّا نستعدُّ للخروجِ، سمعْتُ نداءً خفيفًا يسرِي في أذنيّ وكأنَّه يتقصّدُني، فمَا أوليْتُ أوهامِي اهتمامًا بلْ تابعْتُ مسيرِي، إلاّ أنَّ الصّوتَ عادَ ليستقرَّ واضحًا جليًّا في مسامعِي فاستوقَفَنِي:
- أرجوكِ يا آنستِي هلاّ اقتربْتِ منِّي لبرهةٍ؟
رحْتُ أتلفَّتُ يمينًا ويسارًا، أبحثُ عن مصدرِ الصّوتِ، فما اهتديْتُ إليهِ، فتابعْتُ تقدّمِي وأنا أضحكُ من نفسِي وألومُها على انجرافِها وراءَ تهيّؤاتٍ أوجدَها وقعُ الحزنِ الّذي ظلَّلَنِي. لكنَّ الصّوتَ عاودَ النّداءَ وبإلحاحٍ منْهُ عليَّ كي أستجيبَ، فوقفْتُ للحظةٍ أحاولُ التقاطَ ذبذباتِ الصّوتِ المتطايرةَ مع الهواءِ وتقدّمْتُ بخفّةٍ نحوَ زنزانةٍ ظننْتُها الهدفَ، وأطلَلْتُ برأسِي من نافذتِها الضّيقةِ، فلمْ ألحظْ ما يُشيرُ إلى ظنونِي،
عندَها أيقنْتُ أنَّ الجوعَ قدْ بدأَ يضربُ تفكيرِي فيعجزُه عن التّركيزِ، فأطلقْتُ ضحكةً دوَّتْ في الفضاءِ الرّحبِ، وأسرعْتُ لألحقَ بمنْ سبقونِي عندَها استوقفَتْني أنّةٌ سمّرتْني في مكانِي وجحظَتْ لها أحداقِي:
- أرجوكِ آنستِي اقتربي قليلاً!...
أسرعْتُ الخطى، وتوجّهْتُ نحوَ الأنينِ المنبعثِ من جدرانٍ باردةٍ تآكلَتْ خدودًا نديّةً فرشحَتْ قهرًا ودموعًا وآهاتٍ، ورأيْتُه يقبعُ في زاويةِ نسيانِه يمسّدُ الأرضَ براحتِه المهترئةِ، يتقلّدُ في قدمِه خلخالاً حجريًّا يزنُ اللآلافَ، ويُتيحُ لهُ اللّصوقَ المستمرَّ ببلاطٍ ذِي لسعاتٍ كوخزِ الأبرِ...
ثيابُه الرّثةُ ضاعَتْ معالمُ ألوانِها، فمَا عدْتَ تفرّقُ بينَ لونِها الحقيقيِّ، وألوانِ السّنواتِ السّحيقةِ، وعظامُ جسمِه تقوّسَتْ لقلّةِ استقامتِها، حتَّى احدودَبَتْ قبلَ أوانِها فغدَا كسنديانةٍ عتيقةٍ استحالَتْ لوحًا لنقشِ أسماءِ العشّاقِ فوقَ جيدِها...
- إنَّ روحِيَ تتوقُ لنسيمِ الحرّيّةِ فهلاّ ساعدْتني لأتنشّقَ رحيقَها عبرَ لسانِك؟!
- صدّقْني إنَّك لمحظوظٌ لوجودِك هنا بعيدًا عن رياحِ الظّلمِ الّتي تعصفُ بعالمِنا، فتقلبُ الأبيضَ أسودَ والحقَّ باطلاً!
أوتصدّقُ أنَّ الجبنَ والغبنَ والاستسلامَ والشّرهَ إلى دماءِ الأبرياءِ واستعبادَ الأحرارِ أضحَتْ صفاتٌ يتغنَّى بِها رجالُنا اليومَ!!! والشّجاعةَ والإقدامَ والجهادَ في سبيلِ اللهِ والحقَّ والصّدقَ والرّحمةَ والعفوَ والإنسانيّةَ صارَتْ علاماتٍ، أعرافًا، منْ شذَّ عنْها نُبِذَ وأُفرِدَ إفرادَ البعيرِ المعبّدِ!...
فترقرقَتْ عيناهُ حسرةً على ضياعِ عمرِه هباءً في سبيلِ إعلاءِ الحقِّ،،، فالمسكينُ كانَ يظنُّ أنَّ سجنَه وزملاءَه ليسَ إلاّ كبش فداءٍ لمَنْ يحملُ القضيةَ وينطقُ باسمِها خارجًا...
ابتعدْتُ عنْهُ، وتركْتُه لحسرتِه، وبينَما كنْتُ خارجةً لمحْتُ مبنًى متساقطَ السّقفِ
ثمَّ اقتربَ منّي الرّجلُ وأشارَ بإصبعِه صوبَ قبوٍ دونَ أنْ ينبسَ ببنتِ شفةٍ، مما جعلَني أتساءلُ عن قصدِه، فمضيْتُ متّبعةً خطَّ سيرِ أصبعِه، فرأيْتُ قبوًا عُلّقَتْ في سقفِه بقايا مشانقَ، فاهتزَّ كيانِي لمرآهَا، وأقفلْتُ مِنْ حيثُ جئْتُ إلى أنْ استوقفَنِي قائلاً: لمْ ننجزْ بعد، انظرِي إلى هذا القبوِ التّالِي!
وكانَتِ الدّماءُ متشبّثةً بجدرانِ القبوِ، تسيلُ منْهَا صرخاتُ منْ رحلُوا ضربًا بالنّارِ، عملاً بأوامرِ الطّغاةِ العاجزينَ عن إسكاتِ الحقِّ إلاّ بالقتلِ...
عافَتْ نفسِي مَا رأَتْ، وانسحبْتُ أبحثُ عنْ مكانٍ مفتوحٍ بعدَ إحساسِي بالاختناقِ والقرفِ والغضبِ، فكانَ السّطحُ مَنْ تلقّانِي وحمامةٌ بيضاءُ ترحّبُ بوصولِي... رنوْتُ إليها، مسحْتُ على رأسِها ثمَّ حملتُها وأطلقتُها فوقَ القاهرةِ ذاتِ المآذنِ الألفِ،
ووقفْتُ على الحافةِ أتأمّلُ سفرَ الشّمسِ خلفَ الأهراماتِ، ومنْ قريبٍ يلوحُ لي جامعُ "محمّد عليّ" كأنَّه يجدّدُ حلمِي بلقاءِ بانِيهِ والجلوسِ في حضرتِه وسماعِ صوتِه الجهوريِّ بملامحِه القاسيةِ، ملامحِ الرّجلِ الحقِّ...
أشحْتُ بنظرِي، وجرجرْتُ أذيالَ حنقِي، وأطلقْتُ طرفِي نحوَ السّماءِ صارخةً بصوتٍ بُحَّ منَ الظّلمِ، زلزلَ وجودِي: "الرّحمةُ يا الله" ...
نزلْتُ الشّارعَ وأنَا لا ألوِي على أمرٍ سوى الهروبِ إلى سريرِي لَعَلَّ النّومَ يُعيدُ إليّ ثباتِي، فتبسّمَ لِي فضاءُ القاهرةِ مترجمًا صرختِي إلى شفقٍ أحمرَ اجترحَ الغيومَ فأدمَاها...
إلى اللّقاءِ معَ جُزْءٍ جديدٍ!
تُصْبحونَ على خيرٍ.