بسم الله الرحمن الرحيم




لعب المقهى منذ زمن طويل ولا يزال دوراً بارزاً في الحياة اليومية للإنسان العربي لارتباطه بالذاكرة الجمعية للناس، وتختلف المقاهي باختلاف نوعيات روَّادها ومكانتهم الاجتماعية وسوّياتهم الفكرية ، فهناك مقاهٍ للأدباء والفنانين وأخرى لأبناء الأرياف والغرباء عن المدن والحرفيين ، وغيرها للعمال والموظفين .
ومدينة حمص هي إحدى المدن السورية التي اشتهرت بكثرة مقاهيها التي كانت جزءاً لا يتجزأ من نسيجها الاجتماعي، وكان لها دور كبير في التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدتها هذه المدينة في القرن الماضي، وربما قبل ذلك ، حيث كان عدد هذه المقاهي يقارب الأربعين مقهى منها ما هو خارج سور المدينة ومنها ما هو داخل السور ، وقد اندثر اليوم أغلب هذه المقاهي القديمة وظل مقهيا " الروضة" و" الفرح " دلالة على ماضٍ استثنائي في عراقته .
كانت بعض مقاهي حمص في النصف الأول من القرن الماضي عبارة عن دكانين ملتصقين أو دكان واحد بالنسبة لمقاهي الحارات القديمة ، وتوزعت هذه المقاهي داخل السور الأثري وخارجه كما قلنا آنفاً ، ومن المقاهي التي بُنيت داخل السور" قهوة الحمام " في حي بني السباعي و" قهوة الدباغة " في الحسبة و" قهوة النصارى " في زقاق بني فركوح و" قهوة الجمرة " قرب مقام أبي موسى الأشعري و" قهوة باعوصة " وقهوة " صليبة العصياتي " ومن المقاهي التي انتشرت خارج السور" قهوة المنظر الجميل " إلى الغرب من سينما حمص و" قهوة الزهراوي" إلى الشرق من باب تدمر و" قهوة بيهم " على طريق حماة مكان بناء قصر الحمراء الحالي .
عبد الوهاب وطه حسين :
ومن المقاهي القديمة في حمص التي اكتست اليوم مظهراً عصرياً وطالتها رياح الحداثة " مقهى الروضة الأثري" بقسميه الصيفي والشتوي ،الذي يُعد من أشهر المقاهي السورية ، وكان هذا المقهى في مطلع القرن العشرين ملتقى النخبة من المثقفين ورجال الفكر والسياسة، كما شهد أول لقاء بين الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب وأهل حمص وكان ذلك في يوليو عام 1930 ، كما ألقى فيه الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي محاضرة عن الشاعر ديك الجن الحمصي في الأربعينات من القرن الماضي .
وعلى مسرح الروضة أقام العديد من الفنانين المشاهير مسرحياتهم وأعمالهم الفنية كـ " يوسف وهبي" و" إسماعيل ياسين " و" نجيب الريحاني" و " بشارة واكيم " و" صباح " و" نجاح سلام " ، كما شهد هذا المقهى معظم التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرت بها سورية خلال القرن الماضي ولاسيما أن جلّروّاده كانوا من رجال الأدب والسياسة ، ومع رشفات فنجان القهوة ودخان السجائر كان جزء كبير من تاريخ البلاد يُصنع و تُطلق فوق طاولاته الإشاعات والنُكات والطُرف ، وخصوصاً أيام الانتداب الفرنسي،مما جعل سلطات الانتداب الحاكمة تغلق المقهى أكثر من مرة ، وعندما نالت سوريا استقلالها عاد مقهى الروضة ليراقب الأجواء السياسية والاجتماعية والاقتصادية ، ويصدر تعليقات رواده وآراءهم المختلفة لتنتشر في الشارع وتصبح على كل لسان .
ويمتاز مقهى الروضة الشتوي المصمم معمارياً على نمط دور الأوبرا العالمية بالذوق المعماري الرفيع ، إن كان في الأدراج والسلالم الرخامية أوالبلكونات التي أخذت شكل نصف قوس ، أو النوافذ والمشربيات والأقواس القوطية العربية وغيرها من البصمات الحرفية التي عانقت توليفاتها الطُرز التي عمرّت ذاكرة حمص الجمالية – أم الحجارة السود .
وقد طرأ على مقهى الروضة في السنوات العشر الأخيرة الكثير من مظاهر التجديد إذ أُضيف إلى قسمه الصيفي مطعم عصري ضخم ، وظل المقهى الشتوي محافظاً على نسيجه المعماري بأعمدته الرشيقة وأقواسه البديعة وجدرانه التي تزدان بصور فوتوغرافية نادرة لمعالم من مدينة حمص تعود إلى بدايات القرن الماضي .
ديغول وبائعة المقشات ! :
ومن مقاهي حمص القديمة التي لا زالت قائمة إلى الآن مقهى الفرح الذي يقع على مرمى حجر من مقهى الروضة مقابل ساعة كرجية حداد الشهيرة ، وقد شُيِّد هذا المقهى أوائل القرن الماضي كما تقول لوحة حجرية مثبتة على الواجهة الخلفية للمقهى ، وعلى الرغم من أن التصميم المعماري لهذا المقهى يبدو بسيطاً وعفوياً إلا أنه لعب هو الآخر دوراً هاماً في الحياة الاجتماعية للمدينة ، وعاصر هذا المقهى دخول الفرنسيين إلى حمص، ويُذكر أن الجنرال ديجول عندما زار بلدية حمص وثكنة الدبويا ألقى خطاباً أمام واجهة المقهى ، ويروي كبار السن من رواد المقهى أن إحدى المتظاهرات الحمصيات ضد الاحتلال الفرنسي وكانت تدعى "كوكب" وهي بائعة مقشات رأت ديجول يخطب أمام المقهى فعنّفته قائلةً له: "لعن الله حكومتك يا ديجول". فابتسم لها لأنه لم يفهم ما تقول .
و ارتبط المقهى كذلك بأسماء عدد كبير من المشاهير آنذاك، ومنهم شعراء حمص: أحمد الجندي وعبد الرحيم الحصني ورفيق فاخوري والأديب الكبير محيي الدين درويش، ومن المطربين عبد الغني الشيخ وعلي العريسي وفتحية أحمد التي غنّت فيه عام 1931 والمطربة إنصاف منير ومطرب حمص الشهير نجيب زين الدين وعبد الرحمن الزيات ، كما ارتبط تاريخ المقهى بعدد من ثوار حمص على الاحتلال الفرنسي الذين كانوا يتخفون فيه، ومنهم خيروالشهلا ونظير النشيواني وعمر المجرّص والحاج مصطفى رمضون الذين أذاقوا قوات الاحتلال الفرنسي الويلات وسطروا ملاحم نضال لا تُنسى ، . وكان مقهى الفرح في السنوات الأخيرة مهدداً بالزوال من قبل بعض المتنفذين الذين أرادوا أن يهدموه ويحولوه إلى كتل إسمنتية كما هي أكثر مباني حمص ومنشآتها اليوم لولا غيرة بعض المثقفين والمهتمين وهواة التراث الذين وقفوا سداً منيعاً حال دون إزالة المقهى وهكذا استعاد المقهى في السنوات الأخيرة ما كان عليه عبر لمسات جمالية تحاكي روح الأصالة والتراث .


كتاب معالم واعلام من حمص . خالد عواد الاحمد

http://www.homsstory.com/news.php?readmore=79

مواضيع عشوائيه ممكن تكون تعجبك اخترناها لك: