لم يتغير (فهيد) هذا العاشق للعروبة وأخلاقها، وقبل ذلك في مسقط رأسه حائل التي شهدتْ مولده سنة 1348هـ - 1930م ليُعرف بفهد العلي العريفي (أو فهيد الحائلي) الذي نشأ فيها ودرس حتى حصل على الثانوية، والتحق بكلية الآداب بجامعة الملك سعود، ودرس فيها حتى السنة الثالثة في قسم الجغرافية (وتوقف عن الدراسة لظروف خاصة) في الرياض التي لم يكن الوصول إليها سهلاً تلك الأيام من حائل. وصف العريفي واحدة من رحلاته إلى الرياض من حائل سنة 1371هـ على سيارة من مخلفات الحرب العالمية الثانية اسمها الشعبي (أبو شنب)، واسمها الحقيقي (f.w.d)، واستمرت الرحلة ستة أيام طوال، ومعه على ظهر تلك السيارة العجوز سبعون من الرجال والنساء! (المجلة العربية، ع73، ص128).
وافتتح فهد العريفي مسيرته العملية، فبدأ تاجراً صغيراً، يشتري البضائع المختلفة من دمشق (مثل: الملابس، والكراسي، والحبال، والدلال، والغتر، والعُقل.. إلخ)، وينقلها بالحافلة إلى الحدود ومن ثم يصدرها إلى المملكة على ظهور الإبل، ولا تبرح ذاكرة العريفي صور رحلته التجارية إلى دمشق سنة 1371هـ - 1950م تقريباً، ولا ينسى أن يقارنها بمشاهدات من رحلته للاصطياف بعد تلك الرحلة التجارية بأكثر من خمسة وعشرين عاماً بحدود سنة 1398هـ - 1977م عند مكتب الجوازات وقفت حائراً! كان الباب مغلقاً.. والمكاتب تغط في نوم عميق! وكُتب على ورقة صغيرة بخط جميل: (فضلاً: اقرع الباب عندما تجده مغلقاً ليلاً).
كانت الساعة آنذاك الثالثة والنصف بعد منتصف الليل، وكان الجو بارداً، وجلست أتساءل مع نفسي: كيف أطرق الباب في هذه الساعة المتأخرة؟!
وكدت أعود من حيث أتيت.. لكنني تذكرت فجأة وصية السائق: دق الباب بقوة (عمّوه)! وطرقت الباب بضعف.. فسمعت صوتاً من الداخل يتسلل متثاقلاً!
وفتح الباب.. وظهر رجل يقترب من الستين فارع القامة سمح الوجه والملامح، يجلل الشيب رأسه المرفوع.. وشاربه الخفيف، وظهره المحدودب قليلاً، وكان مظهره يدل على التواضع والهدوء، وتظهر في الوقت نفسه بعض ملامح البؤس والشقاء على قسمات وجهه الأسمر الطويل.. كان يحمل بيده اليسرى سراجاً ذا الفتيلة القطنية و(الكروسين)، ثم يفتح بيده اليمنى باب المكتب ويقول: تفضل.. ثم رفع ضوء السراج وبدأ يسجل المعلومات والسراج تتراقص فتيلته الطويلة بفعل تيار الهواء الداخل من الباب في هذه المنطقة الشمالية المكشوفة!
وأخذت أرقب ملامحه وحركة يده التي يغطيها الوقار وتبرز بقوة بين الشعر الأشيب عروقها الشاحبة!
وبعدما دون المعلومات في دفتر السجل ثم ختم على الجوازين ووقع عليهما، قال وهو يحك جوانب ذقنه بحركة تدل على مقدار تأثير النعاس على كيانه: الله معك..
وقلت في نفسي: قد يكون معاشه الشهري هزيلاً.. فكيف يقدر على توفير بعض متطلبات أسرته؟!
وهزتني العاطفة وناولته - بعد أن تسلمت الجوازين - ما يعادل عشرين ريالاً بعملة بلاده!
واحمر وجهه ثم اسود.. وقفزت عيناه من محاجرهما إلى أعلى.. ثم قال بعنف: أهذه رشوة يا...؟! ولم يكمل (الشتم).
قلت: الرشوة تعطى في البداية.. أما هذه فإكرامية لأنني أزعجتك من نومك في هذه الساعة المتأخرة من الليل.
وتنهد.. ثم جلس ومسح حبات العرق التي بش بها وجهه الصبوح الصلب رغم برودة الجو! وقال: صحيح أن أي مبلغ في هذه الظروف يفك بعض أزماتي.. لكن كرامتي وكرامة بلدي والجهاز الذي أمثله في مكاني هذا فوق كل أزماتي ومشكلاتي.. ثم نظر إليّ مرة ثانية وثالثة نظرات ذات معنى، وقال: والله لو دفعتها قبل أن تتسلم الجوازات لحررت لك (مَضْبَطَة) هكذا، وأحلتك إلى المحكمة، ثم قال وهو يشير بالانصراف: لا تعد لمثلها.. ولا تبن حياتك في شبابك على الباطل يا ولدي!
شكرته بحرارة وانصرفت وأنا أدعو له بالتوفيق.
ودارت الأيام.. وبعد خمسة وعشرين عاماً كنت أراجع شاباً في الجهاز نفسه.. وفي البلد نفسه لأمر يتعلق بالإقامة.. فقال الشاب بنفور ووجهه مكفهر: انتهى الدوام!!
فقلت: كيف ينتهي في الحادية عشرة صباحاً؟
فقال محتداً: (مُو شُغْلَكْ)، ثم ابتسم ابتسامة صفراء.. وقال وهو يفتح أحد أدراج مكتبه: ضع بداخل الدرج كم دولاراً!! إذا كنت تريد أن يستمر الدوام!!
ورجعت بي عقارب الذكريات خمساً وعشرين سنة.. ورأيت أمامي صورة ذلك الرجل الوقور وعينيه النافرتين كعيون الصقر بالغضب والكرامة والعفة والرجولة.. ثم نظرت إلى هذا القَزَم.. بأسنانه الصفراء ووجهه الكريه.. ويده التي ترتجف بفعل الكحول.. وملامحه التي تحمل الاستجداء والمهانة والذل.. وقلت: يرحم الله آباءك وأجدادك، فقد كانوا أشرف منك ومن زمنك الحقير.. (المجلة العربية، ع109، ص65، وع126، ص70 - 71، والحرس الوطني، ع14، ص118 - 119).


منقــــــــول

مواضيع عشوائيه ممكن تكون تعجبك اخترناها لك: