معجم الطبوغرافيا يسجل ذاكرة قطر
الباحثان الحجري وذياب يغوصان في أعماق تاريخ البلاد

ويرصد 3467 موقعاً باللهجة المحلية
العمل يعكس ديناميكية اللغة العربية ويفصح عند دور الطبوغرافيا






لعل جلّ ما ينشده هذا العصر حفظ ذاكرته من لعنة النسيان التي تعصف ببني البشر في ظل ايقاع الحياة السريع وصخب الاسلوب اليومي للعيش الذي يزكيه من جنون التكنولوجيا.

وإذا كان هذا حال الانسان فإن الذاكرة تبدو أكثر الحاحاً للأوطان التي تجتاحها ثورة الحداثة والعمران، فالذاكرة المنشودة باتت في متناول الجميع بين دفتي "كتاب" تنتعش فيه ذاكرة الوطن والناس وتتمازج فيه الاماكن والمناطق والبيئة والطبيعة.

هذا "الكتاب" يكاد يكون فريداً من نوعه فهو يجمع الطبوغرافيا مع الميثولوجيا والجغرافيا مع علم الالسن، إنه ذاكرة قطر بمدنها وأهلها وناسها، وربما أكثر حيث يوغل الباحث في أعماق التفاصيل فينفض غبار النسيان عن مسميات مناطق ومدن ويطلق العنان لتحديد مواطن الأمطار ومسارب المياه.

هذا العمل القيم صدر منه الجزء الأول بعنوان "معجم الطبوغرافيا وأسماء المواقع والاماكن الجغرافية في قطر-الأصول اللغوية والمورفولوجية" للمصنفين الدكتور محمد ذياب مستشار تعليمي بمؤسسة الرعاية التربوية، والدكتور سيف الحجري رئيس مجلس الادارة بمركز أصدقاء البيئة.

وهذا العمل هو ثمرة بحث طويل ومعمق امتد نحو سبع سنوات اعتصر خلالها الباحثان ما وقعت عليه عيناهما، وشغلا بكل كلمة وحرف عقلهما، وجندا لها فكرهما.


لم يأت هذا العمل من فراغ وإنما نبع من اعتزاز الباحث بالنخب التي أفاضت من قبله بعلمها فعمرت بنور معارفها ، وانارت ظلمة الايام، وأزاحت أقفال البصائر، وأخذت بأيدي الاجيال الي بر الامان فعلمت كيف يكون الفرد عضواً فاعلاً في مجتمع قد يغرق في غيابة الجهل، وأمة قد تتيه في عتمة الحضارة المزيفة وشباب قد ينسي لغته ومن ثم كيانه فمن هنا جاء هذا المعجم الذي ليس للباحث منه الا جمع ما تبعثر، وترتيب ما تناثر، وتنظيم ما تقاطر، وتفسير ما شرح.

وتهدف الدراسة الي حصر أسماء الاماكن والكلمات العربية في دولة قطر وعرض مواقعها جغرافيا وفلكيا، وتحديد احداثياتها ضمن قوائم لتفسيرها من الناحيتين اللغوية والمورفولوجية للوصول الي جذورها والوقوف علي اصل التسمية.

ويري الباحث ان فهم ما تعنيه هذه الاسماء والمواقع يزودنا بمعلومات ذات علاقة بطبوغرافية المكان او المنطقة التي حدثت فيها هذه الاسماء.

وعلي الرغم من الصعوبات التي واجهت الباحث الا انه حاول ان يسجل معظم اسماء الاماكن التي يبلغ عددها 3467 اسماً وفق ما ينطقها الاهالي "النطق المحلي."

الباحث الدكتور محمد ذياب وجد الحاجة ماسة لمثل هذا المعجم ذي التراث والبيئة والعلاقات والذكريات ان يوضع بين أيدي القراء والباحثين والدارسين والمهتمين والطلاب والمتخصصين كي يوصل ولا يفصل، يذكر ولا يعكر، يربط بالماضي ويأخذ الي الجذور، ويقف علي عز عاشته الاجيال، وليعرّف بمواقع كانت عامرة وأماكن كانت ظاهرة، محصياً في نفس الوقت عدد هذه المواقع وماهيتها، وأصولها وجذورها، وخصائصها وتوزيعها ومدي ارتباطها بالبيئة وما يحيط بها ويتفاعل معها الي جانب مدي تمثيلها للغتنا-لغة القرآن الكريم.

الباحث حرص علي أن يرصد أسماء الاماكن بحيث تتوافق مع النطق المحلي وعدم اهمال النطق الصحيح لكل اسم وشرح العلة فمثلاً الاسم "جِبَل" الذي تكسر فيه "الجيم" لفظة محلية وصحيحها "جَبَل" بفتح "الجيم"، وكلمة "قطر" اذ تلفظ يا قِطَر بكسر القاف.

ويعرف الباحث الطبوغرافيا بمفهومها المحدود بأنها وصف لكل ملامح المكان سواء أكان دائماً أو شبه دائم، ويقصد بها من ناحية ثانية بأنها هيئة السطح اجمالاً وخلاصة عوامل التعرية والارساب علي الظاهرات الفزيولوجية.

يقول الباحث الدكتور محمد ذياب" إن أسماء الاماكن في قطر كما عايشتها تعكس من جانب ديناميكية اللغة العربية وخصائصها في القدرة علي افراز كلمات أخري نحواً وصرفاً في امكانياتها علي تغطية الفروقات الجهرية التي لا يمكن تلمسها وتفصح من جانب اخر عن دور الطبوغرافيا في طريقة الحياة ونمطها واساليب المعيشة فيها وعلاقاتها وخاصة المرتبطة بموارد المياه في مناطق جافة ذات امطار فصلية نادرة.

ويشير الي أنه لم يلحظ ما يشير الي وجود نظام نهري، وانما نظام الوادي الجاف الباهت المعالم الذي لا يميزه أحد الا من خلال ما قد ينمو علي طول امتداده من بعض الحشائش والاعشاب، اما الاكثر وضوحاً فهو النطاق الصحراوي الذي يعتقد انه لا يمثل عائقاً كالحال في الربع الخالي والصحراء الكبري.

أما موارد المياه ومواقعها فقد نالت قسطاً وارفاً من الاسماء، حدد من خلالها الباحث طبيعتها وأنماط الابار وانواعها، وخصائص المياه وطبيعتها، ويوضح الباحث أيضاًَ العديد من الكلمات والاسماء التي وصفت طبوغرافية الارض وتضاريسها.

ويلفت الباحث أن عدد الكلمات العربية في الطبوغرافيا تزداد حسب طبيعة اللغة ذاتها حيث تبدي الكلمة اختلافات كثيرة من حيث الحركات واضافة حروف ساكنة، وتظهر معظم الاسماء القطرية بالمعجم في صيغة مصغرة وهي شائعة في دول الخليج والجزيرة العربية حيث لمس الباحث أنها مفضلة ومحببة لدي المواطنين دون استثناء، ورأي أنها سمة تسود المجتمعات البدوية سواء فيما يتعلق منها بالطبوغرافيا أو ما هو وثيق الصلة بأفراد أسرة أو قبيلة.

ويستدل من المعجم أنه يغلب علي جمع المؤنث السالم اضافة "الف وتاء مبسوطة، وتمثلها غميلات، النفيلات، في حين يبدو ان غالبية جموع الاسماء "مصغرة" وخاصة جمع المؤنث السالم مثل "بَرثه" ولفظها محلياً "إبرُثَه" وجمعها "البريثات بينما ينبغي أن يكون صحيح لفظها "البرثات".

ويقول سيف الحجري في مقدمته للمعجم ان الاسماء تمت صياغتها باللهجة المحلية دون تحيز او جنوح نحو المحلية، وإنما تأصيلاً للاسم والوقوف علي مدي تجاوب وتكيف اللغة العربية مع هذا المنحي ودليل علي أنها لغة تعايش المكان، ويؤكد علي أن ما لامسه هذا المعجم هو نفسه ما يصبو اليه مركز اصدقاء البيئة الي السعي نحو تحقيقه،مشيرا الي أن مفرداته تتفق تماما مع ذات التوجه وهو الحفاظ علي كل ما هو بيئي وحماية عناصرها.

ويؤكد علي أن مركز اصدقاء البيئة لم يأل جهدا في تيسير سبل المعرفة لطالبيها، وتذليل جلد الارض لمرتاديها، والتواصل مع المواطن ومن يقيم في قطر لتعريفهم بمدلولات اسماء وكلمات تداولها ليدركوا ان الاسم لم يأت من فراغ بل احتضنته لغتنا المعطاءة لغة القرآن الكريم. الدكتور محمد بن عبد الله الأنصاري مدير دار التقويم القطري والمدير العام لمؤسسة الرعاية التربوية عبر عن رأيه في المعجم قائلاً: لم يكن عجباً ان أري بين يدي هذا العمل بما يحكي من جهد، وما يعبر عنه من دأب وما يشهد به من استقصاء وما فيه من ولع البحث، وشغف الغوص في اعماق المراجع مع تباين محتواها وتنوع معطياتها رغبة في الوصول الي هدف اسمي، وغاية عظمي طمح اليها صاحب هذا العمل الكبير، ويضيف حتي ان القارئ الكريم الذي لم تكن له صلة بالمؤلف الا من خلال قراءة هذا البحث ليسأل نفسه في دهشة عن تخصص الباحث فهو يحلق في افاق علوم مختلفة ويبدع في تناول افكار شتي فهو خبير بظواهر السطح وعناصر المناخ.

يشار الي ان هذه ليست هي المرة الأولي التي يكتب فيها الباحث الدكتور محمد ذياب عن قطر او يجعلها موضع دراسته، فقد جعلها موضوع بحثه في رسالة الماجستير التي تقدم بها الي جامعة القاهرة عام 1976 وكان موضوعها " الجغرافيا الطبيعية لدولة قطر" ومن قطر انطلق ليسجل رسالة الدكتوراه أودية كتلتي الجبال الوسطي والشميلية بدولة الإمارات العربية المتحدة - دراسة جيومورفولوجية" والتي تمت مناقشتها في العام 1989، ولم يقف عند هذا بل شارك في تربية الاجيال وساهم في بناء نهضته ومنح قطر الحب والولاء والوفاء منذ سبتمبر من عام 1958م.

مواضيع عشوائيه ممكن تكون تعجبك اخترناها لك: