*ملاحظة: هذا الموضوع قمت بطرحه منذ عام ونصف في منتدى آخر، معرفي فيه بإسم "أنا فهمتكم" أي أن هذا الموضوع من كتابتي وتصويري وليس منقولاً من شخصٍ آخر.


بسم الله الرحمن الرحيم

لا أذكر منذ متى وأنا أحلم بهذا اليوم، يوم زيارة تلك الأرض التي لطالما نسبني لها الجميع حيث كطفل لم أفهم، فأنا وُلِدت في الكويت كيف لي إذن أن أنتمي لغيرها؟ الشيء الذي جعلني مزدوج الانتماء: أرض أعرفها وعشت عليها بحلوها ومرها لكنها ترفضني، وأرضٌ أخرى تستقبلني بالأحضان رغم أني لم أزرها يوماً لكنها مستعدة لمسامحتي وفتح صفحة جديدة. تخطيطي لزيارة أرض الأجداد نشأ منذ أيامي في المرحلة الدراسية الثانوية لكن منذ حينها لم تسنح لي الفرصة للذهاب وقلت لعلها خيرة، وكانت بالفعل! كانت الشكوك والأوهام تراودني حتى في يوم السفر، هل حقاً سأذهب إلى هناك؟ كيف سأشعر عندما أصل؟ هل ستناسبني الحياة هناك؟ هل سأشعر بالملل؟ حتى أني لم أجلب مع أي ملابس سوى التي أرتديها كما جلبت معي جهاز البلاي ستيشن المحمول ظناً أني سأستخدمه كثيراً.

كانت فكرة تدوين يومياتي خلال الرحلة من اقتراح عادل، ابن أخي الأكبر فهد. كان عادل مرافقي في هذه الرحلة حتى قرب نهايتها، لم أتذكر اقتراحه سوى في موعد خروجي إلى المطار حيث أخذت معي أحد الكشاكيل القديمة الفارعة وقلم حبر من الدكان على عُجالة، كم أنا سعيدٌ أنني فعلت! فقط يوجد بضعة نقاط يجب معرفتها عن اليمن قبل البدء بقراءة الموضوع سألخصها في التالي:

1. سياسياً: كانت اليمن مُنقسمة إلى دولتان، دولة الشمال وعاصمتها صنعاء ودولة الجنوب وعاصمتها عدن. تاريخياً كانت تُعرف الشمال بأرض اليمن وتبدأ من عسير شمالاً إلى تَعِز جنوباً، كما كانت تُعرف الجنوب تاريخياً بأرض حضرموت وتمتد من ظفار شرقاً إلى باب المندب غرباً. في عام 1990، قامت الوحدة بين الشطرين حيث كان رئيس الشمال علي عبدالله صالح ورئيس الجنوب علي سالم البيض، أصبح الأول رئيساً للجمهورية والثاني نائباً له، لكن الوحدة لم تستمر ففي عام 1994 قامت الحرب الأهلية بين الشطرين ومن وقتها أصبحت الأراضي الجنوبية غنيمة حرب للحكومة المركزية في صنعاء أي أن من وقتها وحتى يومنا هذا الوحدة شكلية فقط وهذا ما لحظته فور وصولي إلى أرض الجنوب بداية من لحج حيث يُكن الجنوبيون البغضاء للشماليون ويطلقون عليهم اسم "الدحابشة" كما تنتشر أعلام دولة الجنوب في جميع المناطق الجنوبية وهي رمز للمطالبة بفك الارتباط، مطلب نشط في العامين الأخيرين على يد حزب الحراك الجنوبي الذي يترأسه الرئيس السابق للجنوب، علي سالم البيض، حيث تمت سرقة جميع الموارد الاقتصادية لأرض الجنوب وانهارت العملة الجنوبية بعد أن كان الدينار الجنوبي من أقوى العملات في العالم حيث نافس الدينار الكويتي وغيرها الكثير من العوامل التي نشّطت بدورها حركة الهجرة لأبناء الجنوب خصوصاً فنجد الكثير من الحضارم والشبوانيون والمهرة في دول الخليج والغرب. حالياً تجري دراسة في مؤتمر الحوار الوطني تهدف لإعادة تنظيم الدولة بحيث تصبح دولة بنظام إقليمي فيدرالي، كأمريكا والإمارات.

2. تاريخياً: قامت على أرض اليمن الكثير من الحضارات الضاربة في القِدم، فهناك حضارة سبأ وحضارة مْعين وحضارة حضرموت وحضارة قتبان وحضارة حِميَر وحضارة أوسان وحضارة دمت وحضارة جُبان وحضارة نجران وحضارة كِندة وحضارة هَرِم وحضارة نشق وحضارة دَيدان وكثير من الحضارات من العُصور الجاهلية التي لم يُكشف عنها السِتار. يعود أقدم تدوين تاريخي للحياة البشرية في اليمن للألفية الثالثة قبل الميلاد حيث لم تكن هنالك حضارات معروفة سوى في أرض اليمن وبابل – تحتفظ الكثير من المناطق اليمنية حتى يومنا هذا بمسمياتها التاريخية، وهذه هي المحافظات اليمنية لليمن الحديثة: (الشمال) صنعاء، مأرب، عمران، صعدة، الجوف، حِجّة، الحُديدة، المحويت، رَيمْة، إب، ذمار، تَعِز، البيضاء (الجنوب) عدن، الضالِع، لحج، أبين، شبوة، حضرموت، المهرة. حكم اليمن على مر العصور حضارات غير عربية منها الأحباش والفُرس والروم.

3. اجتماعياً: مع نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، استعمرت بريطانيا أرض الجنوب حيث كانت عدن عاصمةً لها لإدارة مستعمراتها الأخرى في الوطن العربي، خلال تلك الفترة، امتزجت الثقافة الإنجليزية والثقافة الهندية بفضل جلب الإنجليز للجنود والتجار من الهند التي كانت أيضاً مستعمرةً لهم إلى عدن، لهذا تخالطت الثقافات تلك مع الثقافة العربية الجنوبية لأهل عدن ونشأت ثقافة جديدة في المأكل والملبس وحتى الأشكال والمفردات اللغوية من الجانبين، فهنالك في الهند والكثير من دول شرق أسيا اليوم كماً كبيراً من الحضارم الذين نشروا الإسلام واللغة العربية من الفيليبين شرقاً إلى موريتانيا غرباً لهذا يرتدي أهل الهند وإندونيسيا وغيرها الإزار "المعوز" اليمني والعمامة ولهذا أيضاً يأتي الآلاف من طُلاب العلم سنوياً إلى تريم حضرموت. الأمر لا يختلف كثيراً في الشمال، فبعد الحُكم العُثماني لصنعاء وغيرها نشأ تخالط جديد في الثقافات أيضاً لكن لم تتأثر كثيراً كما تأثرت عدن وما يُجاورها.

4. جُغرافياً: خريطة اليمن الموحدة "شكلياً" تطل على ثلاث مسطحات مائية، بحر العرب ويطل على المهرة وحضرموت وشبوة، خليج عدن ويطل على أبين وعدن ولحج، والبحر الأحمر ويطل على تَعِز والحُديدة وحِجّة. أرض اليمن عموماً أرض جبلية بمجملها، المحافظات الشمالية تقع على سفوح الجبال لهذا درجة الحرارة منخفضة هناك طوال العام خصوصاً في صنعاء التي تُعتبر أرفع عاصمة عربية للسحاب حيث يقع بها جبل النبي شُعيب وهو أعلى قمة جبلية في شبه الجزيرة والشام حيث تزيد طول قمته عن 3710 كيلو متر فوق سطح البحر، أما إقليم تُهامة "حِجّة والحُديدة" فهو شديد الحرارة بسبب بناء المُدُن على الساحل المُنخفض عن مستوى الجبال. الأمر ينعكس تماماً في المحافظات الجنوبية فأهل الجنوب يبنون في الوديان والأراضي المستوية ويهجرون الجبال، فعدن مثلاً، رطوبتها تساوي رطوبة جِدّة بفضل أن عدن عبارة عن شبه جزيرة، أما المُكلّا فتقل بها نسبة الرطوبة تدريجياً حيث تنعدم الرطوبة في الشِحر المقاربة لها على نفس خط الساحل بفضل علوها حسب خط الاستواء وحركة دوران الكرة الأرضية – تختلف درجات الحرارة وارتكاز الأشعة الشمسية من منطقةٍ لأخرى، فمثلاً في محافظة حضرموت، أكبر المحافظات مساحة، يوجد ثلاثة أقاليم: إقليم الساحل المُطِل على بحر العرب، وإقليم الوادي أو حضرموت الداخل، وإقليم الصحراء وهي جزء من إقليم الرُبع الخالي المُشترك بين حضرموت وعُمان ونجد وأبو ظبي.



خريطة اليمن الحديثة، الموحدة شكلياً (من Google)


خريطة اليمن الكاملة تاريخياً (من Google)


خريطة توضح أقاليم حضرموت الثلاث ومُدُنها المركزية


والآن بعد أن تعرفتم على ما يمكنكم توقعه، يُرجى العلم بأني قد قمت بكتابة هذه اليوميات بعفوية ودون أي تحضيرٍ مُسبق. بعض المعلومات التاريخية التي ستقرئونها تركت لها فراغاً في التدوين حتى أتأكد منها وقد فعلت، أي أن جميع المعلومات صحيحة إن شاء الله، وبالنسبة إلى الصور فقد انتقيت النخبة من بين أكثر من 860 صورة حيث استخدمت في التصوير كاميرا أوليمبوس رقمية وهاتفي النقال سامسونغ جالاكسي إس 3 بعض الأحيان، أيضاً استعنت قليلاً بكاميرة هاتف عادل النقال من نوع آيفون 4 – بعض الصور سيئة الجودة وبعضها قمت بقص أجزاء منها، أما الصور البانورامية فقد قمت بإعادة تحجيمها حتى تتناسب مع عرض شاشة الواينتي؛ في حال أعجبتكم أحد تلك الصور يُرجى مُراسلتي حتى أقوم برفع الصورة بحجمها الطبيعي.




اليوم الأول: الأربعاء 3-4-2013





حطّت الطائرة في مطار صنعاء الدولي في الثامنة مساءاً، المطر توقف للتو والجو شديد البرودة، لم أصدق الزملاء حينما قالوا لي أنّ علي أن أجلب ملابس شتوية فصُدِمت حينما نزلت من الطائرة. كان بانتظاري ثلاث من معارفي في المدينة تدافعوا جميعاً للقيام بالواجب، صعدت وإياهم سيارة النيسان ذات الدفع الرُباعي وخرجنا من المطار إلى شوارع صنعاء المُمطِرة والتي ترتدي أجمل عباءة أراها في حياتي حتى الآن، حرمتني تلك العباءة من رؤية محاسنها لكن لا بأس، فأنا على موعدٍ غداً مع بريق الشمس. في الطريق أوقفتنا حوالي 7 نقاط أمنية، فهذه الفترة تشهد العاصمة تشديداً أمنياً بسبب جلسات الحوار الوطني التي يشارك بها جميع أطياف المجتمع لحل المشكلات السياسية المتعددة.

وصلنا إلى بيت إبراهيم الجابري، صديق مرافقي عادل من أيام الدراسة الجامعية في عدن وهو من أسرة ثرية في محافظة الضالع وهو حالياً يدرس الطب في جامعة صنعاء، يعيش وحيداً في هذا البيت الضخم. الشارع الداخلي ينعدم فيه التخطيط فمياه الأمطار امتزجت برمال الطريق وأصبحت طريقاً من الوحل السميك – رغم بشاعة الطريق وظلمته لفت انتباهي جمال المنازل الحديثة الفاخرة في هذا الحي الحديث. بعد أن صليت المغرب والعشاء جمعاً بسبب السفر، قدم لنا إبراهيم العشاء حيث كان عادل يشعر بالدوار. كان العشاء رائعاً، كبدة مع الشتني وخُبز الملوّح، لم أذق في حياتي خبزاً بهذه اللذة والبساطة، قمة التناسق بين طعم العجين واللهب.

من العادات هنا تخزين القات، وللقات طقوسٌ مُعيّنة أجهلها بطبيعة الحال – علمني إبراهيم تلك الطقوس والآداب وكأنها طقوس لفتح بوابة لعالمٍ آخر. خزّنت أوراق القات، واحدةً تلو الأخرى، بعد دقائق قليلة اختفت معالم الدوار تماماً من على ملامح عادل الذي جاء صباح اليوم بالطائرة من عدن خصيصاً لاستقبالي، بدأ بالحديث والمزح وكأن شيئاً لم يكُن! الآن أنا مخزن لفترة لا أعلم ربما لساعتين حتى الآن، أريد أن أعرف ما هو الشيء المُميز والإدماني بخصوص هذه النبتة مُرّة الطعم. حتى الآن لم أشعر سوى ببعض النشاط وكأن بإمكاني أن أحرر فلسطين وحدي بسكين مطبخ. أريد أن أكتشف بقية أسرار هذه النبتة لربما تبرز العلامات الأخرى مع استمراري في "البحشمة"، حينها ربما "تقرح".

الآن سأذهب لصلاة الفجر، تحدثنا في السياسة منذ الحادية عشر وفرغنا قبل قليل، لم أشعر بالوقت ولأول مرة منذ أيام الثانوية لم أشعر بأن رأسي ثقيلة متخمة بالهموم والهلوسات، عقلي خفيف الوزن جداً كما كان أيام المراهقة حينما لم تكن تؤرقني هُموم الحياة. أريد فقط أن أذكر شيئاً واحداً قبل الصلاة والنوم: اليوم لم أشعر حقاً أني قد سافرت لدولةٍ أخرى، شيء غريب حقاً رغم الاختلاف الشاسع بين الكويت واليمن، لم أشعر أني في بلدٍ أزورها للمرة الأولى مُطلقاً، أشعر وكأني قد كنت هُنا في السابق، بعقلي ثقيل الوزن في السابق رُبما – لا أعلم حقاً هل أصبحت رأسي أخف وزناً أو أقل عبئاً بفعل القات أم بفعل لقاس الجميلة الساحرة صنعاء؟ بعد النوم سيكون موعدي إن شاء الله لرؤية ما تُخبيه تلك الجميلة الخجول تحت عباءة الليل، فقط آمل أن أستيقظ قبل غروب الشمس.



تجربة للكاميرا – الخطوط الجوية الكويتية


تحركت الطائرة إلى منصة الإقلاع مع أذان المغرب


فوق سماء مدينة الدمّام

مواضيع عشوائيه ممكن تكون تعجبك اخترناها لك: