أشكر لكم حضوركم ..

ولي عودة بإذن الله مع الردود،

أتمنى أن يعجبكم،
واذكر... فمازلت ملتزمًا بالطريقة الجديدة التي أستخدمها

------------

محمد (يتحدث):

حدقت في (جي لين) طويلاً منتظرًا إجابته، غير أن الرجل تاه طويلاً بين أفكاره، حتى جاءني صوته أخيرًا وهو يهز رأسه كأنما ينفض فكرة ما من المكوث بين ثنايا زويا عقله:
- بالتأكيد، تفضل.

حاولت أن أنشئ قناة للحوار بيني و(جي لين)، غير أن (كرستينا) قطعت ذلك بسؤاله عن كتاب ما طلبت منه قراءته.
انتهى وقت المحاضرة الأولى كان هناك وقت راحة بين المحاضرتين، مكثت في معقدي، وأنا أرمق الطلاب بنظرات عابرة، كانت إحدى الفتيات تنظر إلي باستمرار، وهي تتحدث مع الأخرى، وعندما تتلاقي الأعين، تشيح بوجهها وكأنها لا تلوي على شيء.

لم يكن لدي ما أفعله، لذا ـ وكالعادة ـ أخرجت هاتفي المحمول، وبدأت أعبث بأزراره، عندما لمحتها، تنهض من مقعدها، وتتجه ناحيتي!
هل هو حسن الحظ، أم بؤسه، الذي جعلها تجلس بجانب (جي لين) الذي يفصل بيني وبينها، والتفت ناحيتي وهي تقول:
- كيف حالك؟ هل أعجبك درس اليوم؟
عندما فتحت فمي محاولاً الرد، عاجلتني قائلةً:
- أنت مسلم، أليس كذلك؟ سمعت أنكم يمكنكم الزواج من أربع نساء، هل هذا صحيح؟

لست أدري كيف كانت تعابير وجهي حينها، فهذه الفتاة اليابانية لم تشأ أن تجعل الدراسة هنا نعيمًا خالصًا، ولم تعطني الفرصة للاستقرار النفسي في المعهد، بل ومنذ اليوم الأول وفي الساعة الأولى فجرت دوامة من الأسئلة، لن ولم تنتهي ... كان من حقي أن أحظى بفترة للتكيُّف، ومن حقها أيضًا أن أجيبها.

***

كانا (تتحدث):

كم أنا غبية، لماذا كلمته البارحة؟ لم يكن هناك أي داعٍ لمحادثته، ولم أكن في حاجة لماله الغبي. فلدي عمل هنا أجني منه ما يكفيني، ولكنها (أمي) التي قالت لي إن والدك يريد الحديث معك ولم تعطني الفرصة للرد عندما ناولته سماعة الهاتف، وبدأ يتحدث معاتبًا كالعادة على شيء أجهله، هذا الغبي يظن أنه أسدى لي خدمة ما عندما جلبني للحياة. لذلك اتخذت قراري ... لا زواج ولا أطفال!

التفت ناحية (بيكا) الفتاة الكورية، وصديقتي الوحيدة. التي توفي والدها وهي صغيرة، وترك لها من حسن الحظ ثروة لا بأس بها، وشباب، وجمال، ومال، تفعل بهم ما تشاء.
كانت بيكا تختلس النظر نحو الطالب الجديد (محمد)، غمزتها في يدها وأنا اقول لها بخبث:
- مالك وماله يافتاة، بالكاد وصل إلى هنا، وها أنت تخططين لسرقته.؟ هل تنوين أن تعيشي في خيمة في قلب الصحراء لبقية حياتك؟ أم تنوين أن تستخدمي الجمل في تنقلاتك؟!

التفتت (بيكا) ناحيتي بوجهها الذي يذكرني دومًا بدمية كانت لدي وأنا طفلة، فالعينان الصغيرتان، والوجه الصغير الدقيق الملامح، المحمر قليلاً بسبب كلامي، يعلن بوضوح عن الجمال الآسيوي، قالت (بيكا) وهي تغمز لي:
- بل قولي ربما يضفني لقائمة زوجاته، فحسب ماسمعت أنهم يتزوجون أربع نساء!
- (واااو) أربع !! ... هل أنت متأكدة؟؟ سوف أسأله عن هذا.

أمسكت (بيكا) بيدي وهي تشدني، وهي تقول:
- أأنت مجنونة؟ المسكين لم يكمل بعد يومه الأول، وها أنت تحاصرينه بأسئلتك الخبيثة! الا يكفي أنه جلس بجانب (جي لين)، وهما كما ترين يتحدثان الآن، يبدو أن (جي لين) لم يقاوم فبدأ يحاصره بالاسئلة.

التفت ناحية (محمد) الذي كان ينظر (لجي لين) بنظرات نافذة ويهمس في أذنه بكلمات، جعلت (جي لين) يتصلب طويلاً وينفض رأسه. أيعقل أن يكون هذا الشاب البهي الطلعة، يرهب (جي لين) العتيق. ربما هذا العجوز لن يصمد طويلاً أمام ذكاء هذا الشاب، لا تسعد كثيرًا يا (محمد)، فهناك مخالب أنثى توشك أن تغرز في عنقك، فهل أنت مستعد؟

التفت (محمد) ناحيني وهو يرمقني بعينين تسبر أغواري، هل كنت أتكلم بصوت عالٍ؟ أشحت بوجهي سريعًا، وأنا أشغل نفسي بترتيب أوراقي، فلقد انتهت المحاضرة الأولى.

حزمت حقيبتي، وحزمت معها أمري، وتوجهت ناحية (محمد) وجلست، لست أدري لماذا جلست بجانب (جي لين)، هل هو خوفًا من هذا الشاب، أم أني أستمد القوة في الحديث من العجوز (جي لين)، التفت ناحية (محمد) وأنا أجهز نفسي للسؤال، ماذا أقول؟ هل أدخل في صلب الموضوع مباشرة؟ أم أقدم بمقدمات؟ لم أدري كيف خرجت الكلمات مني عندما قلت:
- كيف حالك؟ هل أعجبك درس اليوم؟
حاول (محمد) أن يرد، لكن نظراته التي هزتني قليلاً، جعلتني ألقي بكل ما في جعبتي من أسلحة وأقول:
- أنت مسلم، أليس كذلك؟ سمعت أنكم يمكنكم الزواج من أربع نساء، هل هذا صحيح؟

كان رد (محمد) غريبًا، فانتظرت منه أن يثور، أو أن يغضب، بل حتى أن يهددني!
لكن ردة فعلة كانت عجيبة، فشفتاه تألقتا بابتسامة واثقة، ورقت عيناه وهو ينظر إليّ باشفاق! والمصيبة أنه يبدو سعيد بمثل هذا السؤال.

***

محمد (يتحدث):

كان سؤالها مفاجئًا ... فلم أدرِ بما أجيبها، فهل ستفهم حكمة التعدد، أم هل ستقتنع بأن ليس كل المسلمين يعددون، بل هل ستصدقني عندما أقول بأن القليل هم من يفعل ذلك؟

أنقذتني ( كرستينا) من الخوض مع هذه الفتاة المشاكسة في حوار قد لا يكون محمود العواقب، ففي تمام الحادية عشر دخلت وهي تحمل عددًا من الأوراق، وكتاب، وعدة قواميس. أغلقت الباب، ووضعت الكتب، وبدأت توزع الأوراق على الطلاب، واتجهت ناحيتي وناولتني كتاب بني اللون وهي تقول مبتسمةً وهي تشير إلى (جي لين):
- هذه نسختك، لن تضطر أن تتحمل مضايقات (جي لين) في الكتاب بعد الآن.
ابتسمت وأنا أرد دعابتها وقلت:
- شكرًا لك، لقد أرحتني بالفعل من تحمل هذه المضايقات.


كرستينا (تتحدث):

كم الساعة؟ مازالت ( الحادية عشرة)، بقي القليل وأعود لصغيري (فنلي)، الذي تخطى الخامسة ببضعة أسابيع، فبالرغم من أني شددت الوصية على (جليسة الأطفال) لكي تعتني به، وتعطيه الدواء في موعده، إلا أن شباب هذه الأيام لا يعتمد عليهم في كثير من الأمور. فما بالك أن تأتمنهم على طفل مريض جدًا.

دخلت إلى القاعة وأغلقت الباب خلفي، وأنا أحمل في يدي عدد من الأوراق التي سهرت البارحة في تقويمها، والتي تسببت في حنق زوجي عليّ، لكنه عملي وأنا أحبه، وهذا يكفي.

لقد أفنيت شبابي في هذا المجال، وحصلت على العديد من الشهادات العليا في تدريس اللغة، بل إني واحدة من الأساتذة اللاتي يشار لهن بالبنان، ويأتي المدرسون ليدرسوا لدي من كل مكان في هذه المدينة، فاشتهرت كـ ( مدرّسة المدرّسين!) ، فلقد أفنيت مالي وشبابي لأجل هذا.

وزعت الأوراق واتجهت نحو (محمد) الطالب الجديد، الذي يروق لي نوعًا ما، فلديه حس فكاهي جميل، مددت له بالكتاب محاولة أن أتودد إليه، فقلت على سبيل الدعابة وأنا أشير إلى (جي لين):
- هذه نسختك، لن تضطر إلى تحمل مضايقات (جي لين) في الكتاب بعد الآن.
أعجبتني سرعة بديهته،عندما عاجلني قائلاً:
- شكرًا لك، لقد أرحتني بالفعل من تحمل هذه المضايقات.

***

محمد (يتحدث):

بعد انتهاء الدرس، التفت (جي لين) نحوي، وهو ينظر إليّ كما ينظر الأسد لفريسته التي سيجهز عليها، وهو يقول :
- لم تجب على تساؤل (كانا)، حول مسألة الزواج من أربع؟ كيف يكون ذلك؟ أليس في هذا ظلم للمرأة؟

ابتسمت من سخرية الموقف، ومن حرص هذا العجوز على إثارة المواضيع الشائكة، والتفت ناحيته وأنا أقول:
- الزواج من أربع هو مسألة ثابتة في ديننا، وبغض النظر عن العلة أو الأسباب، فأنا كمسلم مطلوب مني أن ألتزم بأوامر الله، سواء وافقت هواي أو لم توافقه،
لكن دعني أسألك إذا تسمح لي؟
- تفضل.
- إن من أساسيات الحوار حول موضوع معين، أن يتكون لديك على الأقل معرفة بالموضوع الذي تتحدث عنه، أليس كذلك؟
- بالطبع، هذا أمر بديهي.
- ممتاز، إذا كان هذا أمرًا بديهيا، فاسمح لي أن أسألك، هل تعرف ما هي أساسيات الإسلام؟

وقبل أن تغرقني بأسئلتك التي تتراقص بين شفتيك، أليس من الأولى أن تتعلم الأسس التي يقوم عليها ديني؟ فليس من المعقول أن أتُعب نفسك في شرح معادلة رياضية معقدة لطالب لم يتقن عمليات الجمع والطرح بعد، ألست معي في ذلك؟

انتظرت أن يجيب (جي لين) أو حتى (كانا) ولكن يبدو أن المفاجأة ألجمتهما، ثم قال (جي لين) بعد أن أستوعب الفخ الذي قدمته لهما، فلم يكن مستعدًا لخسران العراك مع فريسته:
- معك حق، سوف أقرأ حول هذا الدين، ولكنه لن يفيدني بأي شيء، لأني غير مؤمن بأن هناك (إله) خالق للكون، فأنا أميل إلى نظرية أن كل شيء تكون بالصدفة!

صدمني هذا القول، وهز أركاني، فعندما تنشأ في مجتمع يؤمن بالله بشكل كامل، وتأكل وتشرب وأنت تؤمن إيمانًا جازمًا بألوهية الله عز وجل، ومن ثم تفاجأ بنكران وجحود كهذا، ستكون صدمتك عنيفة بلا شك.

حاولت أن أستوعب الكلام الذي قاله، وقلت له:
- تقصد أنك من المؤيدين لنظرية (دارون)؟
- نعم، فأنا مؤمن بأن الحياة والكون .. بل ونحن .. ندور في دائرة لا بداية لها ولا نهاية، فغدًا نموت ونفنى ومن ثم يفني كل شيء، وتواصل الحياة دورتها من جديد ... إلى الأبد.
- لو سلمت بما تقول ـ مع أني لست كذلك ـ وبالرغم من أن نظرية دارون تم إثبات عدم صحتها علميًا، لكن سأفترض غير ذلك، فأنت تقول بأن الدائرة لا تبدأ ولا تنتهي، بل تدور إلى الأبد!
لكن دعنّا نحاول تطبيق ما تقول عمليًا، فلو مسكت قلمًا وأردت أن ترسم دائرة ستجد أنك تبدأ من نقطة وتنتهي عندها، فهناك نقطة بداية. أليس كذلك؟
- لأ ...، إنها دائرة، لا بداية ولا نهاية! ألا تفهم؟
- إنني أحاول .. صدقني، لكن كلامك غير منطقي بالمرة، فلكل مرة هناك أول مرة، ولكل دائرة هناك نقطة بداية، بل وهناك موجد أو صانع لهذه الدائرة!

كنت ألمح كثير من الطلاب يتابعون حديثنا بشغف، بل إن رأيت علامات اقتناع في العيون، ورأيت (جي لين) يهز رأسه العنيد بغير اقتناع، فقررت أن أنزل بكل ثقلي وأضرب بأقوى الأسلحة، خصوصًا وأن الوقت بدأ ينفد والمدرسة غادرت القاعة منذ مدة،
فقلت:
- (جي لين)، يبدو أننا لن نصل إلى حل وسط، لكن سأوجه لك سؤالا وحيدا، ولا أريدك أن تجاوبني الآن، أريدك أن تفكر فيه، وتدرس كل الاحتمالات، أنا لا أسعى للتأثير عليك، ولا تحديد مصيرك، أنت من يحدد من أنت، اتفقنا؟

هز (العجوز) رأسه، وهو يرمقني بنظرة يقول فيها ( أطفال آخر زمن، تحاول أن تزعزع الأرض التي أقف عليها، حركة مكشوفة) وقال:
- لابأس ... دعنا نرى مالديك.

وزعت نظراتي على الجميع، محاولاً أن أضم الكل لنقاشنا، وقلت:
- سوف أدرس معك هنا لمدة 12 أسبوع، وسنلتقي يوميًا في نفس القاعة، أريدك أن تجيبني يوميًا على هذا التساؤل:
لماذا نحن هنا؟
لماذا البشر موجودون؟
لماذا أجدادنا كانوا هنا؟
لماذا أولادنا سيولدون؟
مالغرض من حياتنا؟
ما هو الهدف منها؟


حاول (جي لين) أن يرد، غير أني لم أمهله كثيرًا، فنهضت من مكاني وأنا أحمل كتابي وأضعه في حقيبتي، وأقول له:
- تذكر ... أنا لا أريد الإجابة الآن، فقط فكر في جميع الاحتمالات، وجميع السيناريوهات الممكنة، فوجودنا له هدف أسمى من أن نتكاثر أو نخترع شيئًا ثم نفنى، ومن ثم نعود ونتكاثر من جديد ونعيد نخترع ما اخترعناه، لأجل عيون دائرتك!

بعد أن غادرت القاعة، لم أستطع أن أتحمل الجو الخانق داخل المعهد،
لذا آثرت الخروج إلى الشارع،
كان هناك رذاذ خفيف يتناثر من السماء،
أخذت أمشي تحت الرذاذ وهو يحط على كل شيء،
وأنا أستنشق بعمق الهواء المنعش المشبع برائحة المطر،
وأتأمل بشغف المناظر الخلابة، للطيور والأشجار،
وأصغي سمعي لصوت الطبيعة رائعة،
أكل هذا جزء من الدائرة التي يقول؟
أم هل يعقل أن يكون هذا الجمال صنيع الصدفة؟
.
.
أيعقل؟


... تمت ...

محمد