لا أدري ما الذي دعاني
وأنا أجلس في مقعد القطار المتجه من مدينة بازل السويسرية إلى مدينة مانهايم الألمانية
أن أتخيل أدولف هتلر وهو يخترق الأرياف الألمانية في عنفوان شبابه
مع الجيش الذي أنطوى تحت لوائه متطوعاً كمجند عادي
لم يكن هتلر ساذجاً كي ينخرط في صفوف الجيش طواعة أمره
من أجل إخماد لهيب الحرب العالمية الأولى التي اندلعت جراء شرارة تافهة !
فصحيح أن هتلر نمساوي المنشأ
وصحيح أن تلك الشرارة التي أوقدت تلك الحرب الشعواء
كانت حادثة اغتيال ولي عهد الإمبراطورية النمساوية من قبل شاب صربي متهور
فالحرب التي أطاحت بأكثر من ثمانية ملايين ضحية
كان فتيلها المطالب النمساوية التي رفض الصرب تلبية بعض بنودها
لتتفاقم الأزمة عندما تشكل ألمانيا وايطاليا مع النمسا حلفاً ثلاثياً
وفرنسا وأنجلتر وروسيا بوفاقها الثلاثي مع الدولة الصربية
لكن هتلر على خلاف تلك المسببات كان يملك رؤية ثاقبة لما يريد أن يحققه
فلذلك لم تكن نزعته الأساسية هي الثأر لوريث إمبراطور الدولة التي نشأ فيها
ولم يكن كذلك هدفه الأسمى حوذ حمى الرايخ الألماني من هجمات الوفاق الثلاثي
إذ أنه لم يكن حينها مواطناً ألمانياً
ولكن النزعة العرقية للدم الآري الذي يسري في عروقه
كان هو أسمى أهدافه التي حارب من أجلها
فأيمانه أن عرق الأجناس الشمال نودرية هو الذي ينبغي أن يسود العالم
فكل الثقافات والحضارات العالمية كان يضخها عقل ذلك العرق الفريد بحسب رأيه
فهو لم يحط مهاجراً من النمسا إلى ألمانيا
إلا بعد أن وجد فيها أرض خصبه لتحقيق آماله
بعد أن أزعجه سيطرة اليهود على فيينا العاصمة النمساوية
فوضع نصب عينيه وهو يسير كمجند متطوع تحت جحافل الجيوش الألمانية في تلك الحرب العالمية
أن يرى يوماً ما أبناء ذلك العرق من القبائل الجرمانية
الذين سواء كانوا نمساويين أو ألمانيين أو غيرهم من أبناء تلك الذرية
ينطون تحت أسم لواء الرايخ الألماني الذي هو مهد آبائهم الأول
حقاً لم يكن هتلر ساذجاً بغض النظر عن عنصريته أو أفكاره الشاذة
فهدفه الذي وضعه أمامه
قد حقق جزءاً كبيراً منه بعد أقل من ستة عشر عاماً من موقعة الحرب العالمية الأولى
حيث تجلجل وقتها صوته الجهوري
وهو يزبد ويرعد من على المنابر منادياً بأفكاره النازية كقائد ثوري للرايخ الألماني
حقاً لم يكن ساذجاً وقد أخضع الدولة النمساوية والتشيكية تحت لواء الأمة الألمانية
قد يكون مصاباً بداء العظمة أو حتى بجنون السلطة
إلا أنه لم يكن ساذجاً على البتة عندما نجح في تطبيق مخططاته
للتخلص من كل عرق من شأنه أن يلوث الدم الألماني
رامياً به أما في مقصلات الإعدام
أو حتى في محرقة من أفران الغاز التي شكك الكثير في صحة وجودها
ورغم تلك الشكوك تجاه ما يراه الكثير
من اختلاق اليهود وتضخيمهم لحقيقة محرقة الهولوكوست
حتى تكون ذريعة للاستيلاء على التراب الفلسطيني
إلا إنه لا يستطيع أحد أن يشكك أن هتلر كان يرغب في أن يجعل عرقه السامي هو الذي يسود
وغيره ينفى أو يعدم سواء كان يهودياً أو غجرياً
نعم لم يكن ساذجاً !
فالإنسان عندما يضع أمامه هدفاً سواء كان هداماً أو فعالاً
ويسعى لتحقيقه وفق خطط مدروسة ونضال طويل فهو لا يستحق أن يطلق عليه ساذج بتاتاً
ولكن الحق يقال أن هتلر كان أنموذجاً ممقوتاً
أدى للنزاعات وأجج العنصرية القبيحة بين أفراد العنصر البشري
لذلك أصبح اليوم التباهي بأفكاره جريمة يعاقب عليها كل من ينادي بها
في الجمهورية الألمانية أو حتى في باقي دول العالم
لا أدري ما الذي أجال بخاطري تلك الحقبة الزمنية
وأنا أجلس في كبينة القطار وهو يشق طريقة عبر الغابات السوداء
لابد أن يكون هناك إيحاء حتى ولو غير مباشر
جعلني أسترجع كل تلك المشاهدات التي وثقتها الأقلام وصورتها العدسات
حقاً ما الذي جعلني أتخيل هتلر يقفز ببندقيته من خلف أحد أحراش الأشجار
التي أراها أمامي من نافذة القطار
فلا مسار قضبان القطار الذي يسير بي من جنوب ألمانيا حتى قرب منتصفها
يشابه مسار فيلق هتلر الذي أنطلق من شرق البلاد حتى سهول الفلاندر أقصى شمالها الغربي
في تجربته الحربية الأولى
قد يكون مجرد التحدث عن ألمانيا والسير في طرقاتها بالنسبة لي
كفيل بأن يجعلني أربط أسم هتلر بتلك الدولة
أو أن يكون وقع الطرقات المفزعة التي استيقظت عليها في هذا اليوم
هي التي جعلتني أتخيل أن بارجات جوية تقصف بنا في حرب عالمية
لقد ظللت لفترة طويلة قبل أن تزوج
في نظر والدي أنني مثل جيفة هادمة عندما أستسلم للنوم
ولم ألومه يوماً على ذلك التعليق ، فقد لمت مراراً ثقل النوم الذي بليت به
ورغم ثقل النوم هذا
نهضت من سريري مثل مفزوع
فالطرقات كادت تخلع الباب من مكانه
لم أمتلك إلا أن أفتح الباب حتى أجدد سبباً منطقياً لتلك الجلبة
ما أن أدرت مقبض الباب
حتى ظهر أمامي شخص ذا رأسٍ ضخم وبنية أضخم وبشرة شديدة السمرة
ورغم تلك الأوصاف التي لو تجلت لشخص غيري لفضل القفز من نافذة الغرفة
إلا أني حالما رأيته عاد حاجبي المتقطبين إلى مكانهما المعهود
وارتسمت على شفتي ابتسامة كبيرة
وغاصت يدي البسيطة عندما صافحته في راحة يده الكبيرة
وغصت بعدها في أحضانها معانقاً له قائلاً :
- الله يقطع شيطانك يا أبو محمد ، نشفت دمي ، وش فيها لو دقيت الباب بشويش ؟
- على الأقل أنت أحسن من هلال ، طلع من الباب يصارخ ، بوليس .. بوليس !!
- ما تسيب عوايدك راعي مشاكل ، المهم متى وصلتم ماشاء الله
- قبل نص ساعة ، تقريباً على الساعة 11
أخبرته بأن أن ينتظرني بالأسفل في بهو الفندق
ريثما أقوم بحزم حقيبتي استعداداً للسفر إلى ألمانيا
خرجت بعدها من الغرفة حاملاً على كتفي حقيبتا الكاميرا والحاسب المحول
وتركت عند باب الغرفة حقيبة الملابس
حيث أخطرت موظفي الفندق هاتفياً بأن يحملونها بعربتهم إلى الأسفل
وعندما نزلت من المصعد كان في صالة استقبال الفندق التي أمامي
ستة من الأشخاص يجالسون بعض رفاقي في السفر
صافحتهم جميعاً قبل أن أجلس ، وعانقت خمسة منهم
فلقد كانوا يمثلون مع صديقي أبو محمد المجموعة المجموعة الثانية في الانتداب الخارجي
لم نكن نحن وإياهم المبتعثين الوحيدين للخارج
فلقد تتالت أعداد القادمين بعدنا بأيام
حتى أكتمل عددنا قرابة خمسين شخصاً موزعين على خمس مجموعات
وجهت لكل منا برامج تدريبية مختلفة بمواعيد متفرقة
أخذت مقعدي بجوار صديق دراستي الجامعية
فأبو محمد قبل أن يزاملني في المهنة زاملني على كراسي الدراسة
ونخبأ في صدورنا أسرار ومغامرات بعضنا البعض
التي نفضي بشيء منها على العلن كلما أراد كل واحد منا التهكم على الآخر
لم أحدثه كثيراً عن حال إقامتنا في هذه القرية
فقد كانت له فيها زيارة خاطفة قبل سنوات في مهمة مماثلة
وكان كذلك وقت انطلاقنا بالحافلة قد حان
فودعته بعد أن علمت منه أنه سيلتقي بنا في ألمانيا بعد أكثر من أسبوع من الآن
المفضلات